حين تسبق الأرواح الأجساد
عن العلاقات التي تُولد قبل اللقاء… وتُكشف في الحلم
هل سبق لك أن صادفت وجهًا بدا مألوفًا دون سبب؟ شخصًا لم تلتقه من قبل، لكنك شعرت حياله بشيء يشبه “الذكرى”… لا التعرّف؟ وهل حدث أن رأيت وجهًا في منامك، ثم التقيت به لاحقًا في الواقع، مصحوبًا بإحساس غامض يشبه الرعشة الداخلية… وكأن الزمن التوى داخلك؟
إنه سؤالٌ يطرق أبواب الروح قبل أن يصل إلى الدماغ: هل هناك معرفة خفيّة تسبق لقاء الأجساد؟ وهل تُخزّن بعض العلاقات فينا منذ ما قبل الولادة؟
تلك الأحاسيس التي لا تفسير منطقيًا لها، تُعيدنا إلى سؤال قديم جديد: هل نحن حقًا أبناء الصدفة، أم أن هناك شيئًا فينا يتذكّر ما لم نعشه بعد؟
بحسب فلسفة أفلاطون، فإن الأرواح وُجدت قبل أن تُسكب في الأجساد، وكانت تعيش في عالمٍ علويّ مثاليّ. وهناك، تتآلف الأرواح وتتلاقى، تتعاهد وتتواصل، ثم تهبط إلى هذا العالم الأرضي محمولة على جسد، ناسِيةً كل ما كان… إلا الأثر. ذلك الأثر هو ما نشعر به حين نلتقي “من كنا نعرفهم دون أن نعرف كيف”، كما لو أن هناك وعدًا قديمًا عاد ينبض من جديد.
هذه الفكرة، التي قد تبدو للبعض روحانية أو أسطورية، وجدت صداها الغريب في أبحاث علم النفس التحليلي. فـ”كارل يونغ”، أحد روّاد هذا الحقل، قدّم للعالم مفهوم “اللاوعي الجمعي”، ذلك المستودع النفسي المشترك بين البشر، الذي يحتوي على رموز ومشاعر وارتباطات لا تخص فردًا بعينه، بل تنتمي إلى تاريخ الإنسان ككل. من هنا يمكن تفسير تلك الانجذابات المفاجئة، أو النفور غير المبرر، أو حتى الإحساس بالألفة العميقة تجاه شخص لم نتعامل معه من قبل. فربما… نحن لا “نتعرف”، بل “نتذكّر”.
في بعض الحالات، تظهر هذه التذكّرات على هيئة أحلام. يرى الإنسان شخصًا في منامه لا يعرفه، لكنه يشعر نحوه بانجذاب أو خوف أو ارتباطٍ عميق. وبعد أشهر أو سنوات، يظهر هذا الوجه في الواقع، بنفس التفاصيل، بنفس الإحساس. عندها يُصاب المرء بدهشة داخلية، لا تعرف هل هي نبوءة، أم استدعاء، أم مجرد خيال صادق؟
لكن اللافت أن هذه الأحلام لا تكون “بلا معنى”، بل ترتبط عادةً بشعورٍ عاطفي دقيق: حنين، ارتياح، رغبة في البقاء، أو حتى دمعة لا تفسير لها. وكأن الحلم لا يحكي عن صورة… بل عن علاقة مؤجلة.
لماذا نشتاق أحيانًا لأشخاص لا نعرفهم؟ ولماذا نشعر أن هناك “مكانًا فارغًا” فينا، لا يملؤه إلا وجهٌ لم نرَه بعد؟ ربما لأن هذا الفراغ ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لذاكرة روحية. فالروح – كما تقول العديد من المدارس الصوفية والفلسفية – لا تُقاس بعمر الجسد، بل تحمل معها أثر ما كان قبل الميلاد… وما قد يعود بعد الموت.
ولعلّ أجمل ما في الأمر أن هذه اللقاءات “اللامنطقية” تذكّرنا بأن في الإنسان عمقًا لا يخضع للزمن، وبأن الروابط البشرية ليست دائمًا نتيجة العيش المشترك أو المصالح المتبادلة، بل قد تكون نتيجة عهدٍ قديم، حدث في مكانٍ لا نتذكره… لكننا نصدّقه حين نشعر به.
في النهاية، قد لا نملك إثباتًا علميًا قاطعًا لهذه الفكرة، ولا شرحًا فيزيائيًا يُرضي من يبحث عن المنطق. لكن هل كل ما لا نراه… غير موجود؟ وهل كل ما لا نفسّره… باطل؟
ربما تكمن الحقيقة، لا في الإثبات، بل في الرجفة التي تصيبك حين تُصادف شخصًا، وتشعر أنه لم يأتِ إلى حياتك… بل عاد إليها
فريح الرويلي
دمتم بود