الفراغ العاطفي: حفرة صامتة في قاع الروح

ثمّة شعور لا يُعلَن، لا يُبكَى عليه، ولا يُعترف به بسهولة، لكنه يسكن في عمق الأعماق، كفراغٍ صامت يبتلع كل شيء: الأصوات، الألوان، وحتى الفرح.
إنه الفراغ العاطفي… ذاك الشوق الغامض لما لا نعرفه تحديدًا، والحنين إلى احتواءٍ لم نذقه يومًا، والبحث عن “دفء” لم يُسمَّ قط.
الفراغ العاطفي لا يعني غياب الحب فحسب، بل غياب الإحساس بالـ”وُجود من أجل أحد، ومن أجل شيء”. إنه فقدان الشعور بأنك مرئي، مسموع، محسوس. إنه كأن تعيش على قيد الحياة، لكن خارج التلامس الإنساني.
حين يغيب الصدى: ما هو الفراغ العاطفي؟
يعرف علماء النفس هذا الشعور بأنه:
“An affective disconnection from self and others” – أي انقطاع وجداني عن الذات والآخرين.
الإنسان لا يتغذى على الطعام وحده، بل على الاعتراف بوجوده، على نظرة حقيقية، حضن صادق، كلمة تُقال لا لمجرد المجاملة، بل لتؤكّد “أنا أراك، أنا معك”. فإن غابت هذه التغذيات العاطفية، دخل الفرد في حالة أشبه بالجوع الوجداني المزمن.
الدكتور “جون بولبي” – رائد نظرية التعلّق – وصف ذلك قائلًا:
“عندما يُترك الطفل وحيدًا، لا يصرخ فقط لأنه يحتاج الحليب، بل لأنه يحتاج أن يعرف أن أحدًا ما يسمعه، ويهتم لألمه.”
هذا الفراغ لا يختفي مع البلوغ، بل يتنكر في هيئة نجاحات سطحية، أو علاقات عابرة، أو انشغال مفرط، لكنه يظل يفتك من الداخل.
متى يبدأ الشعور بهذا الفراغ؟
يبدأ الفراغ العاطفي غالبًا في الطفولة، حين لا يتلقّى الطفل انعكاسًا عاطفيًا مناسبًا من والديه. وقد تظهر هذه الديناميكية في صور:
•الوالد المنطوي الذي لا يعبّر عن مشاعره.
•الأم المنهكة التي تعطي كل شيء إلا الحضور النفسي.
•التربية الصارمة التي تجرّم التعبير العاطفي وتعتبره “ضعفًا”.
فينشأ الطفل مُهملًا شعوريًا (Emotionally Neglected) كما يسميه جونيس ويب، فيفقد القدرة على تسمية مشاعره، أو حتى الشعور بها بوضوح، ويكبر وفي داخله فراغٌ لا يُعرف له اسم.
الانعكاسات الخفية لهذا الفراغ
قد لا يُشخّص الفراغ العاطفي كمرض، لكنه يتجلى في السلوك، والعلاقات، وحتى الجسم:
•في العلاقات: يدخل الإنسان في علاقات متكررة لا يكتمل فيها أبدًا، يشعر دومًا بأنه “زائد عن الحاجة”، أو “غير مُرى”، فيعيد تمثيل خيبة الطفولة.
•في السلوك: قد يتحوّل إلى شخص مُفرط في الإرضاء، يسعى لإثبات جدارته العاطفية دون أن يشعر بها أصلًا.
•في الجسد: تظهر أعراض مثل ضيق الصدر المزمن، نوبات هلع بدون سبب، أو حتى أمراض مناعية ترتبط بعزلة الجهاز العصبي.
وقد وجد Stephen Porges في نظريته عن “العصب المبهم” أن الفراغ العاطفي المزمن يضع الجسد في حالة جمود عصبي دفاعي (Dorsal Vagal Shutdown) أشبه بالموت الشعوري المؤقت.
العلاقة بين الوجود والاحتواء العاطفي
لا يمكن للإنسان أن يشعر بـ”وجوده” دون أن يتم احتواؤه عاطفيًا.
الاحتواء ليس مجرد تفاعل، بل هو عملية وجودية؛ فالإنسان لا يعرف نفسه من الداخل فقط، بل من “المرآة الشعورية” التي يضعها الآخر أمامه. وكما يقول جاك لاكان:
“نحن نحتاج وجه الآخر لنعرف حدود ملامحنا”.
والفراغ العاطفي هو غياب هذه المرآة. هو أن تُصبح شخصًا بلا انعكاس، بلا صدى، كمن يصيح في بئر عميقة ولا يعود له صوت.
دوافع دفينة لهذا الفراغ
ليست كل حالات الفراغ العاطفي ناتجة عن غياب الآخرين، أحيانًا تنشأ من الداخل:
1.قناعة اللا استحقاق: وهي فكرة لا واعية ترسّخت في الطفولة: “أنا لا أستحق أن أُحَب”، فيرفض الفرد تلقّي الحب حتى حين يُقدَّم له.
2.الخوف من الانكشاف: البعض يخشى القرب العاطفي لأنه يخاف أن يُرى على حقيقته، فيعزل نفسه عن كل تواصل صادق.
3.الاعتياد على الجفاف: من نشأ في بيئة خالية من الدفء، قد لا يعرف كيف يشعر به حين يجده، فيرفضه تلقائيًا.
كيف نملأ هذا الفراغ؟
ليس الحل في علاقة عاطفية جديدة، ولا في إنجاب طفل، ولا حتى في سفر طويل. كل هذه قد تُخدّر الشعور، لكنها لا تعالجه.
العلاج يبدأ من الداخل، عبر:
•إعادة الاتصال بالذات: من خلال جلسات تأمل، كتابة، أو علاج نفسي عميق يعيدك إلى “نقطة الانفصال الأولى”.
•التعلّم العاطفي المتأخر: أي أن يتعلّم الفرد تسمية مشاعره، وتنظيمها، وتقبّلها، كما لو أنه يتعلّم لغة جديدة.
•علاقات آمنة جديدة: ليس بعدد الأصدقاء، بل بجودتهم. وجود شخص واحد فقط يسمعك دون تصحيح، يفهمك دون نصيحة، قد يكون بداية الشفاء.
ختام يتسلل للروح
الفراغ العاطفي لا يُملأ بكثرة البشر، بل بصدق الشعور.
وما يبحث عنه الإنسان في عمق هذا الفراغ، ليس الحُب فقط، بل أن يُقال له:
“مكانك في قلبي محفوظ… حتى حين لا تتكلم.”
فلا تهرب من فراغك، ولا تغطيه بضحك مصطنع. اقترب منه. أنصت له. فهو باب لاكتشاف ذاتك، لا لعنتها.
فريح الرويلي
دمتم بود

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scan the code