في زوايا النفس البشرية، ثمة ظلال لا تُرى بالعين المجردة، ولا تُلتقط في صور الأشعة أو تحاليل المختبر، إنها ظلال الاكتئاب؛ ذاك الضيف الثقيل الذي لا يطرق الباب، بل يدخل خلسة، يتسلل من ثغرات الحياة اليومية، ويتربع على عرش القلب والعقل دون إذنٍ أو رحمة.
الاكتئاب ليس مجرد حزن عابر، ولا لحظة انكسارٍ مؤقت، بل هو مرض بليغ المكر، شديد التخفي، يرتدي أقنعة الخمول أحيانًا، واللا مبالاة أحيانًا أخرى، وربما يظهر في هيئة انشغال مرضي أو ضحكٍ مفتعل. وفي كثير من الحالات، لا يظهر بصورته التقليدية، بل يتمظهر بأوجاع جسدية: صداع مزمن، إرهاق دائم، اضطرابات في النوم أو الشهية، أو حتى أمراض مناعية. وهنا، تتجلى عبقريته في التمويه.
كيف ينشأ الاكتئاب؟
تشير دراسات كبار الباحثين، مثل “أرون بيك” و”كاي جاميسون”، إلى أن الاكتئاب وليد تداخلات معقدة بين العوامل البيولوجية، والنفسية، والاجتماعية. فثمة خلل في ناقلات عصبية كـ”السيروتونين” و”الدوبامين”، يعبث بكيمياء الدماغ. لكن المسألة ليست في الكيمياء وحدها، بل في السرديات التي نرويها لأنفسنا، في التجارب المبكرة من الطفولة، في أنماط التفكير الكارثي، وفي الصدمات غير المهضومة التي علقت في نسيج اللاوعي.
بل إن دراسة نادرة نُشرت في مجلة Nature Neuroscience كشفت أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب يمتلكون تغيّرًا دقيقًا في بنية “الحُصين” – وهو مركز الذاكرة والعاطفة – حيث تقل كثافة الخلايا العصبية فيه، مما يجعلهم أكثر عرضة لاجترار الأفكار السلبية وتضخيم الإخفاقات.
الأسباب الخفية التي لا يدركها معظم الناس
هل تعلم أن الاكتئاب قد يُغذَّى بالصمت؟ نعم، بالصمت العاطفي المزمن في البيوت، بالتربية القائمة على الكبت بدل التعبير، وبالثقافات التي تعيب البكاء وتُحرم الفضفضة. وهل تعلم أن بعض أنواع الاكتئاب لا تبدأ بالحزن، بل بالسخرية المفرطة؟ أو بالنقد المستمر للذات؟ أو حتى بالإدمان على العمل كوسيلة للهروب من الفراغ الداخلي؟ هذه الوجوه المقنَّعة من الاكتئاب تُعرف علميًّا بـ”الاكتئاب المقنَّع” أو masked depression، وهو نوع قلما يُكتشف في المجتمعات الشرقية تحديدًا.
دوافعه العميقة
أعمق دوافع الاكتئاب لا تُرى على السطح. فالمكتئب ليس فقط من فقد حبيبًا أو وظيفة، بل قد يكون إنسانًا يعاني من “فقد المعنى”، أو “التيه الوجودي”، كما وصفه فيكتور فرانكل، رائد العلاج بالمعنى. الاكتئاب هنا لا يأتي من حدث، بل من الفراغ، من غياب الهدف، من طغيان المادي على الروحي.
وقد لاحظ العالِم “جون تي. كاسيوبو” في أبحاثه أن العزلة الاجتماعية، حتى ولو لم تكن محسوسة ظاهريًا، تحفز مناطق الألم في الدماغ كما لو كانت عذابًا جسديًا حقيقيًا. هذا الاكتشاف، الذي نُشر في Journal of Cognitive Neuroscience، يفسر لماذا يشعر البعض بالاكتئاب حتى وسط الزحام.
كيف نُروّض الوحش؟
الاكتئاب لا يُقهر بالقوة، بل بالفهم. أولى خطوات النجاة أن نعترف بوجوده. ثم تأتي الرحلة العلاجية متعددة الأبعاد:
1.العلاج المعرفي السلوكي (CBT): الذي يعيد تشكيل أنماط التفكير السلبي، ويعلّم الفرد كيف يراقب حديثه الداخلي ويعدّله.
2.العلاج الدوائي: خصوصًا في الحالات المتوسطة إلى الشديدة، حيث تُعيد مضادات الاكتئاب ضبط كيمياء الدماغ. لكن يُشترط أن تكون تحت إشراف مختص، لا أن تُؤخذ بناءً على وصفات عشوائية أو نصائح مجتمعية.
3.العلاج بالمعنى: وهو نوع من العلاج الوجودي يستهدف العمق الروحي للإنسان، ويحرره من الأسئلة الكبرى التي علقت دون إجابات.
4.الممارسات اليومية: كالرياضة، والتعرض للضوء الطبيعي، وتقنيات التأمل اليقظ (Mindfulness)، التي ثبت علميًا قدرتها على إعادة تنظيم مناطق في الدماغ مسؤولة عن المزاج والانتباه.
ختامًا…
إن الاكتئاب ليس علامة ضعف، بل نداء استغاثة داخلي. إنه صرخة العقل حين يختنق، وصوت النفس حين تُهمَل، وجرس إنذار لخللٍ في موازين الروح والجسد والعقل.
ولعل أعظم ما قيل في وصف هذا الداء هو ما كتبه ويليام ستايرون في مذكراته:
“الاكتئاب هو تلك المساحة الرمادية التي تفقد فيها الحياة لونها… حيث يُصبح الهواء أثقل، والنهار أطول، والضحك ذكرى غابرة.”
فإلى كل من يمرّ في هذا الدهليز: لست وحدك. النفق وإن طال، فله نهاية. والنور وإن خبا، فله شروق. ودواء النفس موجود، لكنه يبدأ حين تؤمن أنها تستحق العافية.
دمتم بود
فريح الرويلي